بين الامتناع عن الترويج والدعاية السلبية
في عصرنا الحالي، باتت منصات التواصل الاجتماعي نافذة مفتوحة على العالم، ولكنها في الوقت ذاته أصبحت ساحة كبيرة يتصارع فيها الجيد والسيئ، القيم والانحراف، الحقيقة والتزييف، ففي هذا الزمن الذي بات اللهث وراء "التريند" هو الشغل الشاغل للكثيرين، أصبحت الأخلاق البغيضة والتصرفات الشاذة تلقى صدى أوسع من المتوقع، والسبب الرئيسي هو الترويج لها سواء بالإعجاب أو بالنقد، دون إدراك أن كليهما يساهم في تعزيزها، فأصبحت منصات التواصل الاجتماعي أداة تسهم في تضخيم الظواهر السلبية أحيانًا، السبب الأساسي يعود إلى خوارزميات تلك المنصات التي تعطي الأولوية للمحتوى الذي يحقق تفاعلًا أكبر، بغض النظر عن طبيعته أو تأثيره، والتحدي الأكبر يكمن في كيفية تعامل الأفراد مع هذا المحتوى، حيث أن الإعجاب أو المشاركة أو حتى النقد يسهم في انتشاره بشكل أكبر وبدلًا من محاربة هذه الظواهر من جذورها، نجد أن البعض يُغذيها دون وعي.
"أميتوا الباطل بالسكوت عنه"
تُنسب هذه المقولة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وتعد قاعدة ذهبية في التعامل مع الباطل والأشياء المسيئة والمعنى واضح وبسيط: الباطل لا يستمد قوته إلا من تداوله بين الناس، فإذا تم تجاهله وامتنع الناس عن الحديث عنه أو الترويج له، فإنه يموت تدريجيًا على العكس، فإن تكرار ذكره، سواء بهدف النقد أو المزاح أو الفضول، يمنحه حياة جديدة ويجعله أكثر انتشارًا.
مسرحية "شاهد ماشفش حاجة" والدعاية السلبية
من أبرز الأمثلة المعاصرة التي تعكس هذا المفهوم ما حدث في مسرحية "شاهد ماشفش حاجة" للفنان عادل إمام ففي أحد المشاهد أشار إلى وجود محل عصير "سيئ" بعد نفق العباسية، محذرًا من شرب عصيره المقطع يبدو كوميديًا بسيطًا، لكنه أثار فضول الناس لدرجة أن كثيرين ذهبوا إلى المحل لتجربة العصير السيئ الذي تحدث عنه عادل إمام، صاحب المحل، في البداية كان مستاءً للغاية مما اعتبره إساءة واضحة لسمعته، لكنه سرعان ما لاحظ تدفق الزبائن إلى محله وهكذا، حولت الدعاية السلبية المحل من مجرد مكان عادي إلى وجهة معروفة ورغم أن المحل لم يحسن من جودة عصيره، إلا أنه افتتح فروعًا جديدة بسبب شهرته المفاجئة وهذا المثال يعكس كيف يمكن للنقد أو الذكر السلبي أن يتحول إلى دعاية مجانية، وهو ما نشهده يوميًا على وسائل التواصل الاجتماعي.
زمن التريند وسلطة السوشيال ميديا
في السنوات الأخيرة، أصبح "التريند" هو البوصلة التي توجه سلوكيات الناس على السوشيال ميديا كلما ظهرت قضية أو مقطع فيديو يثير الجدل نجد الآلاف يتفاعلون معه، سواء بالسلب أو الإيجاب ومع كل تفاعل، يزداد انتشاره ويصل إلى جمهور أوسع، على سبيل المثال الفيديوهات التي تُظهر تصرفات شاذة أو مثيرة للجدل بمجرد أن يظهر محتوى من هذا النوع، يبدأ الناس بمشاركته البعض يسخر والبعض ينتقد والبعض يهاجم ولكن النتيجة النهائية واحدة: انتشار المحتوى وزيادة عدد مشاهديه مما يشجع صاحب المحتوى على تقديم المزيد في نهج فريب يعكس غياب الوعي الجماعي بخطورة الترويج للأشياء السلبية، حتى لو كان الهدف هو نقدها.
وهناك أمثلة واقعية عندما حولت السوء إلى شهرة كتلك الكارثة الفنية المقيتة التي تُسمي أغاني المهرجانات حيث ظهرت في السنوات الأخيرة أنواع جديدة من الأغاني التي تعتمد على كلمات سطحية وأحيانًا مسيئة في البداية كانت هذه الأغاني محصورة في فئة معينة من الناس، لكن التفاعل السلبي معها ساهم في انتشارها حتى أصبحت جزءًا من المشهد الموسيقي العام بل وتحقق أرباحًا ضخمة تدفع الجميع لأن يكملوا بنفس هذه الطريقة الوقحة من ما أسموه فنًا وهو أبعد ما يكون عن أي ذوق فني.
كذلك التحديات الخطرة على الموقع الكريه لقلبي تيك توك، تحديات مثل "القفز من أماكن مرتفعة" أو "تحدي النار" بدأت كمجرد تصرفات فردية غريبة لكنها تحولت إلى "تريند" بسبب تداولها على نطاق واسع رغم خطورتها الواضحة إلا أن مشاركة الناس لهذه الفيديوهات زادت من شعبية هذه التحديات، مما شجع الآخرين على تقليدها، وايضًا المحتوى المسيء للأطفال والذي ظهر من بعض صناع المحتوى حيث يقدمون فيديوهات مسيئة تستهدف الأطفال وبمجرد أن تثير الجدل، يبدأ الناس بنشرها تحت عنوان "التحذير" لكن هذه التحذيرات تزيد من شهرة المحتوى بدلاً من الحد منه.
كيف نواجه هذه الظاهرة؟
أولًا بالتجاهل والتوقف عن التفاعل، وكما قال عمر بن الخطاب، يمكننا إبطال الباطل بعدم التفاعل معه لا تضع إعجابًا لا تشارك ولا تترك تعليقًا كلما قل الاهتمام بالمحتوى السيئ، قلت فرص انتشاره.
ثانيًا بالتركيز على الإيجابيات وذلك بدلاً من التركيز على السلبيات يمكننا أن نروج للمحتوى الجيد ونشجع صناع المحتوى المبدعين.
ثالثًا زيادة الوعي المجتمعي فعلينا أن ننشر الوعي بين الناس حول خطورة التفاعل مع المحتوى السلبي وكيف يمكن لهذا التفاعل أن يعزز من انتشاره والبداية تكون من نفسك ثم البيئة المحيطة الأصغر فالأكبر.
رابعًا الموقف الإيجابي بالتبليغ عن المحتوى المسيء حيث توفر منصات التواصل الاجتماعي أدوات للتبليغ عن المحتوى المسيء استخدام هذه الأدوات بدلاً من نشر الفيديوهات المسيئة يمكن أن يساهم في تقليل انتشارها.
والحل يتطلب وعيًا جماعيًا بالآثار السلبية لهذا السلوك الرقمي وتغيير نمط التفاعل مع المحتوى المضر يجب أن يُوجه الاهتمام نحو تعزيز المحتوى الإيجابي والقيم النبيلة ومقاطعة كل ما يروج للإساءة أو الانحراف كما أنه على المؤسسات التعليمية والثقافية أن تلعب دورًا في توعية الشباب بمخاطر هذا الانجراف وراء "التريند" دون تقييم موضوعي عزيزي القارئ: إن زمن التريند وضعنا جميعًا أمام تحديات كبيرة، أبرزها كيفية التعامل مع المحتوى السيئ دون الترويج له إن السكوت عن الباطل وتجاهله هو أفضل وسيلة لإبطاله خاصة في عصر أصبحت فيه السوشيال ميديا قادرة على جعل أي شيء ينتشر في لحظات وعلينا أن نتعلم من الأمثلة السابقة سواء كانت قصة محل العصير أو أغاني المهرجانات أو التحديات الخطرة أن التفاعل مع السوء حتى لو كان بنية نقده قد يؤدي إلى زيادة قوته المسألة تحتاج إلى وعي جماعي وإرادة صادقة لتغيير هذا الواقع وإلا فإن اللهث وراء التريند سيأخذنا جميعًا إلى طريق لا رجعة فيه …