لم تكن المحلة الكبرى في صباح الجمعة الماضي مجرد مدينة صناعية نابضة بالحياة، بل تحولت بين لحظة وأخرى إلى ساحة مأساة إنسانية تقشعر لها الأبدان، النيران اشتعلت في مصنع ومصبغة "غزل البشبيشي" بحي أول المحلة، ومع ألسنة اللهب ارتفعت صرخات العمال وأصوات الاستغاثة، لتصنع مشهدًا يختلط فيه الدخان الأسود بدموع الأمهات وارتباك الأهالي، وكأن الزمن توقف أمام لحظة الكارثة.
الضحايا لم يكونوا مجرد أرقام في بيانات رسمية، بل وجوه مألوفة لأسر بسيطة اعتادت أن ترى أبناءها يعودون كل مساء مرهقين من العمل حاملين خبز يومهم، فإذا بهم يعودون هذه المرة محمولين على الأكتاف أو راقدين في غرف المستشفى يصارعون الألم، أربعة عشر روحًا رحلت فجأة، بينهم ثلاثة من أبطال الحماية المدنية الذين دخلوا إلى قلب النار بصدور مفتوحة، غير عابئين بخطر الموت، ساعين فقط لإنقاذ الآخرين وتنفيذ رسالة مهنتهم السامية رحلوا وهم يؤدون واجبهم، ليتركوا لنا درسًا خالدًا عن معنى البطولة الحقيقية التي لا تُكتب في الكتب، بل تُروى بالدموع والدماء والتضحية التي لا تُنسي ولا تُمحي.
وسط هذه الفاجعة الثقيلة، كان المشهد الإنساني أشد إيلامًا من أي وصف أمام أبواب المستشفى العام بالمحلة، تجمعت العائلات في انتظار أنباء عن أحبائها، بعضهم يترقب خروج مصاب يطمئن قلبه، وآخرون تسمروا في صمت بعد أن تلقوا خبر الفقد القاسي المؤلم لا كلمات تكفي لتصف دموع أم رأت جثمان ابنها الشاب، أو أب جلس يواسي أسرته بكلمات متكسرة وهو يعلم أن الجرح أكبر من أي عزاء كانت المحلة كلها تبكي وكأنها بيت واحد فقد أبناءه في لحظة واحدة.
وفي الخارج، اخترقت صفارات سيارات الإسعاف سكون المدينة، وازدحمت الشوارع المؤدية إلى المستشفى والموقع المنكوب، بينما وقف الأطفال في الجنازات يتطلعون بوجوه غضة إلى نعوش ملفوفة في الكفن الأبيض، وكأنهم يكتشفون للمرة الأولى أن الموت قد يختطف العائل والجار والصديق في لحظة واحدة كانت صورًا لا تُمحى من الذاكرة، مشاهد إنسانية أقوى من أي خطاب، وأقسى من أي خبر.
وسط هذا السواد، برزت ملامح عزاء وحّد الجميع فالدولة تحركت سريعًا، فعقب الحادث المشؤم زار اللواء أشرف الجندي محافظ الغربية، يرافقه وزير العمل محمد جبران، مستشفى المحلة العام لمتابعة حالة المصابين والاطمئنان على الخدمات الطبية، وأكد المسؤولون أن جميع الإمكانات مسخرة لرعاية المصابين، وأن الدولة لن تتخلى عن أي أسرة متضررة.
الوزراء أعلنوا عن قرارات عاجلة بصرف 400 ألف جنيه لأسرة كل متوفى، بالإضافة إلى إعانات فورية للمصابين، وفقًا للتقارير الطبية، حتى تعود الحياة تدريجيًا لمن كتب لهم النجاة وفي خطوة إنسانية بالغة الأثر، توجه المحافظ والوزير إلى منازل الضحايا لتقديم العزاء، حاملين رسالة واضحة أن الدولة حاضرة في محنة أبنائها، وأن الأرواح التي رحلت لن تُترك ذكراها يتيمة.
ولم تغب يد العدالة عن المشهد، فقد أمرت النيابة العامة بالقبض على صاحب المصنع والتحقيق معه، لمحاسبة كل من تسبب أو أهمل، فدماء الضحايا لا يمكن أن تُهدر وما حدث يعيد السؤال المرير عن معايير السلامة في المصانع وأرواح البسطاء التي قد تتحول بين لحظة وأخرى إلى ضريبة باهظة لإهمال لا يغتفر.
كارثة المحلة ستبقى شاهدًا على بطولة رجال الحماية المدنية الذين اختاروا الموت في سبيل إنقاذ الآخرين، وعلى وحدة مدينة كاملة اجتمع أهلها في الحزن، وعلى دور الدولة التي حاولت تضميد الجراح بالمتابعة والدعم ولكن يبقى الدرس الأهم هو أن الأرواح أغلى من أي إنتاج، وأن العمل لا يجب أن يتحول إلى مقبرة جماعية من هنا تصبح الرقابة الصارمة على المصانع واشتراطات السلامة المهنية واجبًا لا يقبل التأجيل، حتى لا تتحول دموع المحلة إلى دموع وطن بأكمله.